جارٍ تحميل التاريخ...

بث تجريبي

الحديث النبوي الشريف – أداء الحقوق إلى أهلها -ذ. محمد مشان

الحديث النبوي الشريف – أداء الحقوق إلى أهلها -ذ. محمد مشان

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيد ولد عدنان سيدنا وسندنا محمد ﷺ وعلى أله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.                     

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «لَتُؤَدّنّ ‌الْحُقُوق ‌إِلَى ‌أَهْلِهَا ‌يَوْمَ ‌الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ

تخريج الحديث:

أخرجه مسلم في “صحيحه”: رقم: (2582) (كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم) والبخاريّ في “الأدب المفرد” (183)، و (الترمذيّ) في “صفة القيامة” (2420)، و (أحمد) في “مسنده” (2/ 235 و301 و323 و372 و411)، و (ابن حبّان) في “صحيحه” (7363).

راوي الحديث:

الصحابي الجليل أبو هريرة راوية الإسلام عبد الرحمن بن صخر الدوسي، سبقت ترجمته في الأحاديث السابقة.

معنى الحديث:

لَتُؤَدّنَّ ‌الْحُقُوقَ ‌إِلَى ‌أَهْلِهَا ‌يَوْمَ ‌الْقِيَامَةِ:

هذا جواب قسم محذوف، كأنه قال: والله لتُؤَدّن الحقوقُ، و«أَصْحَاب الحَدِيث يضمون التَّاء ويفتحون الدَّال على مَا لم يسم فَاعله. وَأهل اللُّغَة يمْنَعُونَ من ذَلِك ([1]

والحقوق: جَمْع حقّ، وهو: “ما يَحِقّ على الإنسان أن يؤدّيه، وهو يعمّ حقوقَ الأبدانِ، والأموالِ، والأعراضِ، وصغيرَ ذلك، وكبيرَه، كما قال تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ يَٰوَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا اَ۬لْكِتَٰبِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةٗ وَلَا كَبِيرَةً اِلَّآ أَحْص۪يٰهَاۖ﴾ [الكهف: 48]، وكما قال: ﴿وَنَضَعُ اُ۬لْمَوَٰزِينَ اَ۬لْقِسْطَ لِيَوْمِ اِ۬لْقِيَٰمَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٞ شَئْاٗۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالُ حَبَّةٖ مِّنْ خَرْدَلٍ اَتَيْنَا بِهَا وَكَف۪ىٰ بِنَا حَٰسِبِينَۖ﴾ [الأنبياء: 47] ([2]).”

إلى أهلها: إلى أصحابها المستحقين لها، أي: وجوب إبراء الذمة بأداء الحقوق لأصحابها من غير تقصير، ودون أن يُبْخَس منها شيء؛ لأن عدم ‌أداء ‌الحقوق فسوق.

«حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ»: الشاة “الجَلْحَاء“: هي التي لا قرنَ لها. والشاة “القَرناء“: وهي التي لها قرنٌ.

يعني: لو نطحت شاةٌ قرناءٌ شاةً جلحاءَ في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة يؤخذ القرن من الشاة القرناء، وتُعطى الجلحاءُ قرنًا حتى تقتصَّ لنفسها من الشاة القرناء. فإن قيل: الشاة غير مكلَّفة فكيف يُقتص منها؟

قلنا هذا الحديث ضَرْبُ مَثَلٍ «لِيُشْعِر الباري سبحانه الخليقة أنَهَّا دارُ قِصاصٍ وَمجازَاةٍ، وأنّه لا يبقى عندَ أحدٍ لأحدٍ حقّ، فَضرَبَ الَمثَلَ بالبهائم التي ليست بمكلفة حتى يُسْتَحَقَّ فيها القصاصُ لِيُفْهَم منه أن بني آدم المكلَّفين أحَقّ، وأولى بالقِصاص بينهم([3]).»

وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى: «هَذَا تَصْرِيحٌ بِحَشْرِ الْبَهَائِمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِعَادَتِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا يُعَادُ أَهْلُ التَّكْلِيفِ مِنَ الْآدَمِيِّينَ، وَكَمَا يُعَادُ الْأَطْفَالُ، وَالْمَجَانِينُ، وَمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةٌ، وَعَلَى هَذَا تَظَاهَرَتْ دَلَائِلُ الْقُرْآنِ، وَالسُّنَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا اَ۬لْوُحُوشُ حُشِرَتْ﴾ [التكوير: 5]، وَإِذَا وَرَدَ لَفْظُ الشَّرْعِ وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ إِجْرَائِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ عَقْلٌ وَلَا شَرْعٌ وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ. قَالَ الْعُلَمَاءُ وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْحَشْرِ وَالْإِعَادَةِ في الْقِيَامَةِ الْمُجَازَاةُ وَالْعِقَابُ وَالثَّوَابُ وَأَمَّا الْقِصَاصُ مِنَ الْقَرْنَاءِ لِلْجَلْحَاءِ فَلَيْسَ هُوَ مِنْ قِصَاصِ التكليف إذ لا تَكْلِيفَ عَلَيْهَا بَلْ هُوَ قِصَاصُ مُقَابَلَةٍ»([4]).

والغرض من هذا: إعلام العباد أنه لا تضيع الحقوق، ويُقتصُّ حقُّ المظلوم من الظالم، وتوفَّى كل نفس ما كسبت([5]).»

وقد ورد في هذا الموضوع أحاديث أخرى منها:

  • قوله ﷺ: «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة، فقال رجل: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول الله؟ فقال : وإن قضيباً من أراك»([6]
  • وقوله ﷺ: «من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه، أو من شيء فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له حسنات، أُخِذَ من سيئات صاحِبِه فَحُمِلَ عليه»([7]
  • وقول النبي ﷺ: «أول ما يقضى بين الناس في الدماء»([8]
  • وقوله ﷺ لأصحابه: «أتدرون من المفلس؟! قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال : «إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار»([9]
  • وقوله ﷺ: «إنَّ الله ليملي للظالم، فإذا أخذه لم يفلته ثم قرأ: ﴿وَكَذَٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَآ أَخَذَ اَ۬لْقُر۪ىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌۖ اِنَّ أَخْذَهُۥٓ أَلِيمٞ شَدِيدٌۖ﴾ [هود: 102]»([10]
  • وقوله ﷺ: «يَحْشُرُ اللهُ الْعِبَادَ أَوْ قَالَ النَّاسَ عُرَاةً غُرْلًا بُهْمًا. قَالَ: قُلْنَا: مَا بُهْمًا؟ قَالَ: “لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ: أَنَا الْمَلِكُ، أَنَا الدَّيَّانُ، لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ وَعِنْدَهُ مَظْلَمَةٌ حَتَّى أَقُصَّهُ مِنْهُ، حَتَّى اللَّطْمَةَ”. قَالَ: قُلْنَا: كَيْفَ، وَإِنَّمَا نَأْتِي اللهَ غُرْلًا بُهْمًا؟ قَالَ: “بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ”. قَالَ: وَتَلَا رَسُولُ اللهِ ﷺ: ﴿اِ۬لْيَوْمَ تُجْز۪ىٰ كُلُّ نَفْسِۢ بِمَا كَسَبَتْۖ لَا ظُلْمَ اَ۬لْيَوْمَۖ﴾ [غافر: 16]»([11]).

وجملة الأمر أن القضية دالّة بطريق المبالغة على كمال العدالة بين كافّة المكلفين، فإنه إذا كان هذا حال الحيوانات الخارجة عن التكليف، فكيف بذوي العقول من الوضيع والشريف، والقوي والضعيف([12]).

ومن عدل الله تعالى جعل للناس يوما للفصل بينهم يقتص فيه الله من الظالمين هو يوم الدين، يوم الجزاء؛ ولقد سمى الله جل في علاه يوم القيامة بأسماء منها: الحاقة والقارعة والغاشية والصاخة والتغابن، يوم الجمع، ويوم الفزع الأكبر، ويوم التناد، ويوم الوعيد، ويوم الحسرة، ويوم التلاق، ويوم المآب، ويوم الفصل، ويوم العرض على الله، ويوم الخروج، ويوم الخلود، ومنها يوم عظيم، ويوم عسير، ويوم مشهود، ويوم عبوس قمطرير، ومنها يوم تبلى السرائر، ومنها يوم لا تملك نفس لنفس شيئا، ويوم يدعون إلى نار جهنم، ويوم تشخص فيه الأبصار، ويوم لا ينفع الظالمين معذرتهم، ويوم لا ينطقون، ويوم لا ينفع مال ولا بنون، ويوم لا يكتمون الله حديثا، ويوم لا مرد له من الله، ويوم لا بيع فيه ولا خلال، ويوم لا ريب فيه.

ولن يفلت أحد من عدل الله، وعقابه، ولولا الغفلة، ونسيان دار القرار ما ظلم ظالم. ومادام الأمر كذلك “يَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي رِضَا الْخُصُومِ، وَإِذَا كَانَ الذَّنْبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ اللَّهَ رَحِيمٌ يَتَجَاوَزُ عَنْهُ إِذَا اسْتَغْفَرَ، وَإِذَا كَانَ الذَّنْبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعِبَادِ فَإِنَّهُ مُطَالَبٌ بِهِ لَا مَحَالَةَ، وَلَا يَنْفَعُهُ الِاسْتِغْفَارُ وَلَا التَّوْبَةُ مَا لَمْ يَرْضَ الْخَصْمُ وَإِنْ لَمْ يُرْضِهِ فِي الدُّنْيَا، أُخِذَ مِنْ حَسَنَاتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»([13])، فلا بد من الخروج من هذه الدنيا بذمة نقية، دون أن تكون للإنسان تبعات يسأل عنها يوم القيامة.

و« ‌الدَّوَاوِينُ ‌ثَلَاثَةٌ: فَدِيوَانٌ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا، وَدِيوَانٌ لَا يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِ شَيْئًا، وَدِيوَانٌ لَا يَتْرُكُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا، فَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لَا يَغْفِرُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا فَالْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ عز وجل، قَالَ اللَّهُ عز وجل: ﴿اِنَّ اَ۬للَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُّشْرَكَ بِهِۦۖ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَنْ يَّشَآءُۖ﴾ [النساء: 47]، وَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لَا يَعْبَأُ اللَّهُ بِهِ شَيْئًا قَطُّ فَظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، وَأَمَّا الدِّيوَانُ الَّذِي لَا يَتْرُكُ اللَّهُ مِنْهُ شَيْئًا فَمَظَالِمُ الْعِبَادِ بَيْنَهُمُ الْقِصَاصُ لَا مَحَالَةَ»([14]).

خلاصة:

إننا نعاني اليوم من عقم الإيمان، فهو بالنسبة لبعض الناس قول لا يسنده عمل، ولا يشهد له واقع، والحق الذي لا مرية فيه أن الدين ليس طقوسا ومراسم تؤدى بشكل فلكلوري، وليس ترانيم وشكليات، الدين وحي أشرقت أنواره على المجتمع فاستضاء بنوره، فهو علاج للآفات والعلل الفردية والجماعية، وهو دواء ناجع لجميع أمراضنا وأسقامنا.

والتدين الرشيد أداء للواجبات على أكمل وجه، وصون وحفظ للحقوق: حقوق الله، وحقوق الناس، ينعم فيه الرجال والنساء بالأمن والأمان على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم.

والمفروض في العقائد أن تبني أمة عظيمة تؤسس على الأخلاق الفاضلة، ولا جدوى من الدين إذا لم يؤثر في واقع الناس، ولم يقوم اعوجاجهم، ولم يكبح غرائزهم وهواهم، ولم يَحُدَّ من ظلمهم، ولم يهذب أخلاقهم، ويحسن طبائعهم، ولم ينفرهم ويبعدهم عن الأثرة والأنانية والطواف حول الذات.

هذا والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

([1]) كشف المشكل من حديث الصحيحين 3/ 585.

([2]) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم 6/564.

([3]) المعلم بفوائد مسلم (3/ 293).

([4]) شرح النووي على مسلم (16/ 136).

([5]) المفاتيح في شرح المصابيح (5/ 259).

([6]) رواه الإمام مسلم في كتاب الإيمان بَاب وَعِيدِ مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ مُسْلِمٍ بِيَمِينٍ فَاجِرَةٍ بِالنَّارِ (رقم 137).

([7]) رواه الإمام البخاري في كتاب المظالم ‌‌بَابُ مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ عِنْدَ الرَّجُلِ فَحَلَّلَهَا لَهُ هَلْ يُبَيِّنُ مَظْلَمَتَهُ (رقم 6534)..

([8])  صحيح الإمام البخاري ‌‌كِتَابُ الدِّيَاتِ باب قَوْل اللهِ تَعَالَى ]وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ[ رقم:6864.

([9]) رواه الإمام مسلم كتاب البر والصلة والآداب باب تحريم الظلم (رقم: 2581).

([10]) أخرجه: الإمام البخاري كِتَابُ التَّفْسِيرِ بَاب: قَوْلِهِ: ]وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ[6/74 (4686)، والإمام مسلم كتاب البر والصلة والآداب باب تحريم الظلم 8 /19 (2583).

([11]) مسند الإمام أحمد 25/432 ومستدرك الحاكم 2/475 رقم: 3638.

([12])  انظر مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح للملا علي القاري 8/3203.

([13]) تنبيه الغافلين بأحاديث سيد الأنبياء والمرسلين للسمرقندي ص: 119.

([14]) المستدرك على الصحيحين كتاب الفتن (9/ 620).


At vero eos et accusamus et iusto odio digni goikussimos ducimus qui to bonfo blanditiis praese. Ntium voluum deleniti atque.

Melbourne, Australia
(Sat - Thursday)
(10am - 05 pm)